بين الإستقرار والديموقراطية ماكرون يقامر بالجمهورية الخامسة.
قلم المرسول مع الأستاذ عبد المنعم الكزان.
مشهد سريالي ذاك الذي تشهده فرنسا بعد أن أرخت الأزمة السياسية بظلالها على الجمهورية الخامسة أزمة لم تصل لهذا العمق منذ عقود، لقد أسقط البرلمان حكومة ميشال بارنييه في تصويت تاريخي على حجب الثقة، وهو الأول من نوعه منذ عام 1962. هذا الحدث الغير مسبوق ليس مجرد تصعيد عابر في السياسية الفرنسية، إنه عنوان تغير جذري في طبيعة هذا النظام الديمقراطي الذي طالما تغنى بفضائل الثورة الفرنسية وإنتصار البورجوازية على النبلاء، لقد علمنا التاريخ أن الفقراء لم يصنعوا ثورة حتى وإن لم يأكلوا “البسكويت”، الجمهورية الخامسة تواجه تحديا مزدوجا يتمثل في إحتواء الإستياء الشعبي المتزايد الذي تقوده النقابات من جهة ومنةجهة أخرى إعادة تشكيل التحالفات السياسية التي أضحت أكثر تآكلا وهشاشة من أي وقت مضى.
فمنذ اللحظات الأولى لإعلان سقوط الحكومة، بدأت الأسئلة تتقاطر حول مستقبل الديمقراطية الفرنسية يأخذ حيزا كبيرا من لدن العديد من المثقفين. لقد استمر المشهد السياسي الفرنسي لعقود في التوازن النسبي بعد ثورة الطلاب التي أطرها فكريا فلاسفة فرنسا سارتر، مشيل فوكو…..، اليوم إنقسامات كبيرة بين اليمين واليسار في زمن لم تعد الإديولوجيا هي المحدد بعد أن ضاقت الفجوات بين اليمين واليسار، ونجاح العديد من الأحزاب اليمينية في قيادة عدة دول أوروبية، وفي مقابل هذا التضييق الذي تشهد أيديولوجيات اليمين واليسار، نجد توسع الفجوة بين تطلعات الشعب الفرنسي والنخبة السياسية.
وحتى الرئيس الصغير والمتخبط إيمانويل ماكرون، الذي يبدو مرتاحا وكأنه محصن بقصر الإليزيه من تداعيات هذا التصعيد الشعبي والسياسي، فهو في موقف لا يحسد عليه، خاصة وأن الإحتقان الشعبي، الذي بدأ منذ سنوات مع حركة السترات الصفراء، ليعود من جديد ليرخي بظلاله على السياسات الإجتماعية الفرنسية وسط دعوات العديد من القيادات النقابية والسياسية إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
إن السقوط المدوي لحكومة بارنييه لم يكن مفاجئا بالنظر إلى التحديات التي واجهتها للوهلة الأولى لتشكيلها. فكل المتتبعين للشأن الفرنسي يعرفون أن الإنتخابات التشريعية الأخيرة عرت الأحزاب التقليدية وظهرت الكتل البرلمانية كأنها في ساحة المعركة وتفتقد أدنى رغبة في الصلح أو التوافق. هذا التشتت من البديهي أن يقود إلى تشكيل حكومة مريضة وعاجزة عن تمرير أهم المشاريع السياسية مثل ماحدث في الميزانية العامة، الشئ الذي أدى إلى تصويت 331 نائبًا لصالح مذكرة حجب الثقة، وهو ما يفوق العدد المطلوب بفارق كبير للتتهاوى الحكومة كوراق الخريف.
ورغم عمق مشكل عدم التصويت على قانون المالية وما يترتب عنه على مستوى تدبير الدولة الفرنسية. فإن إحتجاجات الشارع الفرنسي كانت ولا تزال المحدد في تشكيل ملامح هذه المرحلة المضطربة. مع الإضرابات العمالية التي شملت قطاعات حيوية، وكذا الإحتجاجات المستمرة ضد سياسات التقشف، لقد أصبح واضحا للجميع أن الشعب لم يعد يثق في قدرة الحكومة أو حتى النخبة السياسية الفرنسية ككل على تلبية تطلعاته. وما يزيد الطين بلة هذا الإنقسام السياسي بين اليمين المتطرف واليسار الراديكالي لم يترك مساحة تذكر لبناء توافق وطني.
يبدو أن الجمهورية الفرنسية التي طالما تغنى الفرنسيون باعتبارها نمودجا ناجحا للديمقراطية والإستقرار في القارة العجوز، تواجه اليوم تحديا حقيقيا لقدرتها على التكيف مع التحولات الإجتماعية والسياسية التي يعرفها هذا البلد. بدءا من النقاش حول ضرورة إجراء انتخابات مبكرة أو الإتجاه نحو تشكيل حكومة تكنوقراط بعيدة عن الأحزاب السياسية مما يبين بشكل جلي الإعتراف الضمني بأن النظام السياسي الفرنسي الحالي إستنفد كل الأفكار والأليات التي من خلالها يمكن إحتواء هذه الأزمات الإجتماعية السياسية المركبة.
وربما يقتضي الأمر هاهنا عادة النظر في الفلسفة الدستورية التي بنى عليها الفرنسيون نظام الجمهورية الخامسة، الذي أصبح شائخا وغير مواكب لهذه التحولات، قصد إنتاج أفكار وقوانين تضمن استقرارا أكبر للنظام السياسي. في حين يظل ماكرون تائها في الوجوه السياسية الفرنسية للبحث عن خلف جديد لبارنييه، تبقى التساؤلات مؤرقة حول مستقبل الديمقراطية في فرنسا. ومعها التفكير من جديد في آليات وأفكار جديدة تطعم الفكر السياسي مستقبلا بالشكل الذي يسهم في مواكبة التحولات الذي تعرفها المجتمعات ليس في فرنسا فحسب بل في عدة دول في عصر الذكاء الاصطناعي والرقمة والعولمة.
هل ستقود هذه الأزمة إلى إصلاحات حقيقية تعيد ثقة الشعب الفرنسي في المؤسسات؟ أم أنها ستكون بداية السقوط إلى الهاوية في ظل الإستقطابات السياسية والإجتماعية المتبادلة؟ في ظل هذه التحولات، قد يكون الوقت قد حان لكي تعيد فرنسا تعريف ديمقراطيتها بما يتناسب مع متطلبات القرن الحادي والعشرين فعالم اليوم ليس هو عالم الستينيات من القرن الماضي.
مشاركة المحتوى:
إرسال التعليق