جاري التحميل الآن
×

البابا ماكرون يتشبث بالمقعد.

البابا ماكرون يتشبث بالمقعد.

قلم المرسول مع الأستاذ عبد المنعم الكزان

الدخان الأبيض والأسود طالما ارتبط بالفاتيكان كرمز الإختيار الكرادلة بابا جديد، لقد كان الخميس الماضي هذا المشهد مشهدا سياسيا فرنسيا بامتياز، لكنه ينبعث هذه المرة من أروقة السياسة في قصر ماتينيون، مقر رئيس الحكومة الفرنسية. سقطت حكومة ميشال بارنييه إثر تصويت تاريخي لحجب الثقة لم يكن سوى تحصيل حاصل لأزمة أعمق تجتاح الجمهورية الخامسة، حيث كان البحث عن رئيس حكومة جديد أشبه بمحاولة يائسة للعثور على إبرة في كومة قش وسط انقسامات برلمانية حادة واحتقان شعبي متزايد لدى الفرنسين.

ليلة الخميس كانت محورية، حيث انتظر المتتبع الفرنسي بفارغ الصبر إعلان الرئيس الصغير ماكرون المحصن بأسوار قصر الإليزيه، عن الشخصية التي ستخلف بارنييه في قصر ماتينيون. لكن الإنتظار امتد إلى صباح الجمعة، حيث تجاوز مهلة 48 ساعة التي كان قد زفها للفرنسيين سابق، وكأن البلاد بأكملها تمسك أنفاسها ترقبا لدخان أبيض يعلن عن ولادة حكومة جديدة قادرة على مواجهة التحديات المتراكمة.

حكومة بارنييه التي انهارت كانت منذ البداية محاصرة بتداعيات الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها التي أفرزت برلمانا مشرذما غير قادر على التوافق. هذا الوضع جعل الحكومة عاجزة عن تمرير أولوياتها، بما في ذلك الميزانية العامة، ليتم إسقاطها بمذكرة حجب ثقة نالت تأييد 331 نائباً، مسجلة سابقة تاريخية كأقصر الحكومات عمرا في تاريخ الجمهورية الخامسة.

الصغير ماكرون، الذي بدا في موقف لا يحسد عليه، لقد راهن على فرنسوا بايرو، السياسي الوسطي المخضرم ذو النفس اليساري، لتولي رئاسة الحكومة المستقبلية. خطوة يحاول من خلالها تجاوز الأزمة السياسية، لكنها لم تلق قبولا واسعا. مارين لوبان وصفت هذا التعيين بأنه “طريق مسدود” نفس الموقف يتبناه عبر عنه اليساري ميلونشون، فيما تعهدت ماتيلد بانو بمعارضة أي حكومة لا تحمل رؤية يسارية واضحة. ومع ذلك، يرى البعض أن بايرو قد يمثل الفرصة الأخيرة لبناء توافق سياسي يمنع الجمهورية الفرنسية من الانزلاق نحو الهاوية.

الأزمة لم تقتصر على المشهد البرلماني فقط، بل امتدت إلى الشارع الفرنسي الذي يرزح تحت وطأة سياسات التقشف وتفاقم الدين العام، الذي تجاوز 6% من الناتج المحلي الإجمالي. وبينما يحاول ماكرون التمسك بمنصبه في وجه دعوات الاستقالة المتزايدة، تواجه فرنسا تحديات كبرى على الساحة الدولية، خاصة في إفريقيا. التراجع الفرنسي في القارة السمراء بات جليا، حيث بدأت العديد من الدول الإفريقية تتخلى عن النفوذ الفرنسي لصالح قوى جديدة، مما يشكل ضربة لطموحات باريس في الحفاظ على مكانتها الدولية. هذا بالإضافة إلى التوترات في الشرق الأوسط وشرق أروبا والتحولات المتسارعة في النظام العالمي، مما يزيد من الضغط على الجمهورية الخامسة.

بين أروقة قصر الإليزيه، حيث يحاول ماكرون إعادة ترتيب أوراقه، وقصر ماتينيون الذي خرج منه رئيس حكومة جديدة، تعيش فرنسا مخاضا سياسيا عسيرا. هذا المشهد قد يكون فرصة لإعادة التفكير في أسس الجمهورية الخامسة ونظامها السياسي الذي يبدو وكأنه استنفد طاقته في مواجهة التحديات المعاصرة. ومع استمرار الصراع بين اليمين واليسار، يبقى السؤال: هل سيمنح البرلمان الفرنسي فرصة لفرنسوا بايرو لإثبات قدرته على قيادة الحكومة الفرنسية نحو الخروج من الأزمة، أم أن “الدخان الأسود” سيعود مجددا ليعلن عن فشل آخر؟ فشل ينضاف إلى فشل ماكرون الصغير منذ الإعلان عن إنتخابات تشريعية سابقة لأوانها؟

هذه التساؤلات تلقي بظلالها على مشهد سياسي مضطرب، حيث الانقسامات العميقة والاحتقان الشعبي يهددان بإغراق الجمهورية الخامسة في دوامة جديدة لا تبدو لها نهاية واضحة.

مشاركة المحتوى:

إرسال التعليق

المزيد